مقدمة:
تشير مجموعة من الدراسات التي عنيت بإشكالية التوجيه التربوي بالمغرب بأن الامر يتعلق أساسا بأزمة مركبة. ولذلك فإنه يمكن مقاربة أزمة التوجيه ببلادنا من خلال النظر إليها من ثلاث زوايا كما يراها بعض الباحثين: فهناك من يراها ازمة نمو وهو الاتجاه الرسمي، وهناك من يراها أزمة هياكل ووسائل و هو رأي “المهنيين” وهناك من يراها ازمة هوية وانطلاقة حسب الباحثين في الميدان . وسنحاول بيان بعض ملامح هذه العناصر الثلاثه المكونة لأزمة التوجيه التربوي ببلادنا ، لنختم بنقاش حول موضوع التمهين نضمنه تصورنا للوسائل الكفيلة بالارتقاء بمهام اطر التوجيه والتخطيط التربوي، لنحقق الجودة الشاملة المنشودة في منظومتنا التربوية والتكوينية.
السياق التاريخي:
عرف مجال التوجيه التربوي انتقالات وتطورات متسارعة منذ إحداثه بتاريخ 9 ماي 1946سنة 1946 بقرار لسلطات الحماية ، والقاضي بخلف مراكز “مراكز التوثيق والتوجيه”، التي كانت مهمتها الأساسية تتمثل في انتقاء اليد العاملة قصد تأهيلها مهنيا في إطار سلك تكويني قصير[1].
وابتداء من سنة 1947، شرع في تطبيق التوجيه المدرسي والمهني داخل المؤسسات التعليمية ، حيث كانت تشرف عليه” مراكز التوجيه المهني” المتواجدة آنذاك بالمدن الكبرى .
وفي سنة 1959 تم إحداث “مكتب التوثيق بوزارة التعليم” الذي كان يشرف على “مراكز التوجيه المهني” ، ليتحول سنة 1961-1962 إلى “مصلحة التوجيه المدرسي والمهني” مشكلة من أربعة مكاتب : “مكتب التوجيه، مكتب الإحصاء،مكتب المنح ومكتب الإعلام والتوثيق”. وفي سنة 1974 ستحمل هذه المصلحة اسم “مصلحة التوجيه والتخطيط والمالية”، بعد إدراج مفهوم التخطيط، كنتيجة لتزايد أعداد المتمدرسين، ووضوح الحاجة إلى بناء مخططات تربوية موازية للخطط الاقتصادية العامة للبلد.
ومع بداية الثمانينات، عرف قطاع التوجيه تحولات كبيرة من أهمها:
– الارتقاء بمصلحة التوجيه على الصعيد المركزي إلى قسم “الإعلام المدرسي والتوجيه” بمصالحه الثلاث (مصلحة الإعلام، مصلحة التوجيه، مصلحة الدراسات البسيكوتقنية).
وستعرف سنة 1981 صدور المذكرة التنظيمية رقم 18 المنظمة لعمليات الإعلام المدرسي والمهني بالمؤسسات التعليمية، والتي أناطت مهمة الإعلام بأساتذة مكلفين بالإعلام لمدة ساعتين في الأسبوع. لتصدر بعدها المذكرة رقم 48 سنة 1983 والقاضية بإحداث مكاتب للإعلام والتوجيه ، والتي أسندت لها مهام الإعلام والتوجيه وتدبير المنح ، وقد تم إلحاق هذه المكاتب بمصلحة التخطيط بمختلف نيابات التعليم . وفي نهاية الثمانيات ، بدأ ت الوزارة الوصية في إرساء منظومة للتوجيه التربوي بمختلف بنياتها الخدماتية والتاطيرية والإدارية، كنتيجة طبيعية تبررها الأهمية التي أصبحت تكتسيها خدمات الإعلام والتوجيه كجزء هام من العملية التربوية .حيث شهدت سنة 1987، بروز مفهمو القطاع المدرسي كبنية خدماتية أحدثت بهدف تقريب خدمات الإعلام والتوجيه من التلاميذ ، لتظهر بعدها تباعا مجموعة من المذكرات المنظمة لمجال الاستشارة والتوجيه والمحددة لمهام وتدخلات اطر الاستشارة والتوجيه [2]، فمن المذكرة 56/1987 إلى المذكرة 192/1989، إلى المذكرة الإطار رقم 91 الصادرة سنة 2005 والتي جاءت كإطار تنظيمي لمجال الاستشارة والتوجيه انسجما مع مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين ، وكذا تنفيذا لمضامين مخطط تطوير وظائف واليات الاستشارة والتوجيه للفترة ما بين 2005 و2010 المنبثق عن أشغال المناظرة الوطنية حول تطوير وظائف وآليات الاستشارة والتوجيه المنعقدة يوم 9 أبريل 2005 بالرباط، وهي المناظرة التي شكلت محطة حاسمة للانتقال من مقاربة الإعلام والتوجيه إلى مقاربة الاستشارة والتوجيه. وختاما صدرت المذكرات 17 و18و19 فبراير سنة 2010 ،وسيتم الانتقال أيضا هذه المرة من مقاربة الاستشارة والتوجيه إلى مقاربة الإعلام والمساعدة على التوجيه، انسجاما مع أهداف البرنامج الاستعجالي (2009-2012) والذي أريد له أن يكون نفسا جديدة للإصلاحات التي تعرفها منظومة التربوية والتكوين ولمعالجة أسباب عدم تحقق الأهداف التي رسمها الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
بعد جولتنا التاريخية هذه على مختلف المحطات والتطورات التي شهدها التوجيه التربوي والمغرب، نمر الآن إلى إبراز إشكالية التوجيه التربوي بالمغرب منطلقين في ذلك من مختلف الدراسات والتشخيصات التي أجريت في المجال، محاولين رصد أهم التعثرات والمشكلات التي حالت دون إرساء منظومة توجيه ناجعة.
بداية ، وكما لا حظنا في استعراضنا للمسار الذي عرفه مجال التوجيه ببلدنا، نسجل غياب روية إستراتيجية للمجال منذ انطلاق العمل بالتوجيه التربوي بمفهومه العصري، فمنذ الاستقلال وإلى غاية اليوم لم يكن التوجيه محط نقاش عميق وتأصيل فلسفي و نظري ، اللهم إشارة الميثاق الوطني للتربية والتكوين في الدعامة 6 منه ولاسيما المادة 99 إلى أن “التوجيه جزء لا يتجزأ من سيرورة التربية والتكوين بوصفه وظيفة لمواكبة وتيسير النضج والميول وملكات المتعلمين واختياراتهم التربوية والمهنية،وإعادة توجيههم كلما دعت الضرورة إلى ذلك،ابتداء من السنة الثانية من المدرسة الإعدادية إلى التعليم العالي“. وهي إشارة لا يمكن وصفها بالإستراتيجية، إذ نص الميثاق على أن التوجيه جزء من سيرورة التربية والتكوين ولم ينص عل انه “البوصلة الموجهة لمنظومة التربية و التكوين” تنظيرا وتتبعا وتقويما. فالتوجيه يحتوي ويتجاوز التربية [3].كما انه حدد مهام التوجيه في مواكبة المتعلمين وتيسير نضجهم المهني واختياراتهم التربوية منذ السنة الثانية ، والحق أن الكثير من النظريات والأبحاث تثبت أن الميولات تبدأ مبكرا منذ الطفولة وبالتالي فالتوجيه ينبغي أن يواكب النمو النفسي والعقلي للتلميذ في كل مراحله العمرية. وحتى المقاربة التربوية التي تتبناها الرؤية المؤطرة لمجال التوجيه ، تبقى مقاربة من بين عدة مقاربات، لا يمكن الجزم بصلاحيتها المطلقة ، فهي تنطلق من مفهوم التوجيه المتمركز حول الفرد وحاجاته في حين تأتي الحاجات المجتمعية في المرتبة الثانية. فالمجتمع ينظر إليه باعتباره “مجتمع أفراد”[4]، وهو مفهوم يدل حقا على قوة الايدولوجيا المعاصرة التي تعتبر كل فرد مستقلا بذاته، ومسؤولا وقادرا على الاستقلال بالنسبة للوضعيات الواقعية التي يجد نفسه منخرطا فيها. إن هذا التصور يحيل على ما يسميه الأخصائيون النفسيون ب “قاعدة الاستدخال la norme d’internalité ) )، أي اعتقاد يقود الأفراد إلى إيلاء قيمة اكبر للتفسيرات السببية للأحداث السيكولوجية. التي تقوي مسؤولية كل فرد فاعل. إن هذا التمثل يقود إلى اعتبار تطور الفرد كقاعدة أساسية وأخلاقية يمكن إعلانها كالتالي:”ابن نفسك بنفسك واعتمد على نفسك”[5].
كان هذا نقاشنا حول التصورات و بعض النظريات التي ينطلق منه مفهوم التوجيه التربوي في بلادنا .فماذا عن الممارسات الميدانية؟
تثبت الممارسة الميدانية وجود جملة من الإشكالات الحقيقية، لا زال يتخبط فيها مجال التوجيه التربوي وسنحاول رصد هذه التعثرات والمشاكل من خلال تجربتا في هذا المجال واحتكاكنا المباشر في الميدان.
1- على مستوي بنيات التوجيه:
- – البنيات الخدماتية:
لا زال العمل بمفهوم القطاع[6] هو الساري .وهو ما يعكس فشل الوزارة الوصية على تحقيق تقريب خدمات التوجيه من التلميذ ، قلا يمكن الحديث، في ضل الوضعية الحالية، عن حق الإعلام والتوجيه للتلميذ ولا عن حقه في الاستفادة من مقاربة فردية للتوجيه والإعلام، مقاربة تعتبر التلميذ كائنا فريدا يستلزم احترام أصالته و خصوصيته وتاريخه الشخصي وحاجاته الخاصة ، حيث أن المعدل الوطني يناهز 1200 تلميذ لكل مستشار.فواقع الحال يثبت أن الذي يقدمه اطر التوجيه –في ظل هذه الإكراهات والصعوبات – لا يعدو عن تقديم خدمات الإعلام، من خلال تدخلات محدودة في الزمان والمكان، محددة في عمليات إدارية بالأساس من مثل إعادة التمدرس والتوجيه، والمساهمة في المجالس التقنية . أما الباقي فهو حصص إعلامية جماعية عادة ما يغيب عنها التلاميذ لافتقارهم للتحفيز الكافي وللوعي بأهمية التوجيه وهو الشيء الذي ينسحب على الأطر الإدارية والتربوية التي لا يعي اغلبها مفهوم التوجيه ولا أهميته. و لذالك ، في ظل الوضع الحالي، يصعب الحديث عن مساهمة كل الفاعلين في التوجيه التربوي، وهو الأمر الذي يعد أساسا في عملية التوجيه، فمن الأسرة للأستاذ ، للفاعلين الاقتصاديين و الجمعويين، الكل ينبغي أن يعنى بعملية التوجيه التي هي شان تربوي عام .
- -البنيات التأطيرية:
لا زال سؤال التأطير التربوي يطرح بحدة في هذا المجال، فواقع الحال يثبت أن ممارسة هيئة التأطير لم ترق بعد إلى المنتظر منها ، اللهم من نراه من تأطير بعض اللقاءات التربوية ، في حين انه كان ينبغي توجبه هذه الطاقات إلى البحث والتجريب أساسا ، مما سينعكس على الارتقاء بمنظومة التوجيه والتخطيط التربوي والمساهمة الفعالة في تذليل العقبات التي يجدها اطر التوجيه والتخطيط ميدانيا، ويبقى واقع الحال وغياب الإمكانات والوسائل الضرورية للمستشار لانجاز مهامه من الأسباب الرئيسة التي تجعل المفتش في التوجيه أو التخطيط التربوي ينأى بنفسه عن مطالبة من يؤطر بتفعيل مقتضيات المذكرات المؤطرة للمجال ، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه.
- 3-البنيات الإدارية:
نلاحظ في هذا الصدد عدم تفعيل مقتضيات المذكرة 18 ، القاضية بخلق البنيات الإدارية التالية (المراكز الجهوية والإقليمية للإعلام والمساعدة على لتوجيه) إلى حيز الوجود إلا في قليل من النيابات، بل سجلنا إغلاق بعض مراكز الاستشارة والتوجيه وخلايا إنتاج الوثائق، وهو ما لا يسمح لكافة التلاميذ بالاستفادة من هذه الخدمات .وتبقي فعالية البنيات السابقة على ورود المذكرة 18 (6 خلايا لإنتاج وثائق إعلامية) ، وعلى المستوى الإقليمي (52 مركز للاستشارة والتوجيه) حسب التقرير الأخير للمجلس الأعلى للتعليم، محدودة نظرا لأن وظائفها لم تتحدد بشكل واضح كما أن الموارد المخصصة لها غير كافية . فضلا على أنها تعاني من غياب التنسيق سواء على المستوى الأفقي أي بين مختلف عناصر بنيات الاستشارة والتوجيه أو بين أطراف أخرى معنية بالتوجيه (التعليم العالي والتكوين المهني وعالم الشغل ) أو على المستوى العمودي أي بين المركز والجهة والإقليم والمؤسسة التعليمية . وهو ما جعل هذه البنيات عرضة للإهمال والنسيان والارتجال.
2-على مستوى تعبئة الأسرة:
لا زال نظامنا التربوي عموما لم يدمج الأسرة المغربية بشكل فعال وواضح في العملية التعليمية، رغم انه يعتبر جمعيات الآباء باعتبارها ممثلا للأسر ، شريكا أساسيا، ومنحها عضوية مجلس التدبير. لكن واقع الحال يبين عن اختلالات عميقة تطبع العلاقة بين الأسرة والمدرسة العمومية. فمن جهة ، هناك أزمة ثقة لدي الأسر من الدور الذي يمكن أن تقوم به المدرسة في صناعة مستقبل أبنائهم ، ومن جهة أخرى لا زالت الإدارة التربوية في اغلب الأحيان ترقب بحذر شديد خطوات جمعيات الآباء ، بل أحيانا تضع لها سقفا مسبقا للمشاركة والمساهمة وهو ما يدلل على طابع فقدان الثقة والتوتر الذين يبقيان السمة الغالبة على طبيعة العلاقة بين الجانبين. وبخصوص موضوع التوجيه فان الممارسة الميدانية أبانت عن وجود إشكالات حقيقية على مستوى تدخل الآباء في الموضوع ويمكن إجمال هذه الاختلالات في النقاط التالية:
1- أثبتت مجموعة من الأبحاث في الموضوع أن بعض الأسر تتدخل بشكل كبير في تحديد اختيارات ومسارات أبنائها بوعي آو بدونه بتأثير ذلك على مستقبلهم وحياتهم المدرسية.
2- هناك اسر مستقيلة تماما من تتبع الأبناء وتعتبر مسالة التوجيه شانا يخص المدرسة ويدل على ذلك غياب أي تواصل بينها وبين الإدارة أو المستشار في التوجيه.
3-هناك أسر لا تعطي التوجيه التربوي الأهمية اللازمة، ولا تعتبر ذلك ضروريا فالمهم عندها هو النجاح وتحقيق أعلى المعدلات.
4- هناك اسر تدفع أبنائها دفعا باتجاه اختيار الشعب العلمية والتقنية لأنهم لا يرون للشعب الأدبية فائدة ولا إمكانية للحصول على مهنة مستقبلا.
5- هناك أسر تترك مسالة الاختيار للحظ والقدر ظنا منها أننا لا نملك سلطة على المستقبل وبالتالي تحمل مفهوما خاطئا عن القدرية، وعن حرية الإنسان وإرادته و التي هي أساس المساءلة شرعا وقانونا.
6- أكدت أيضا العديد من الدراسات أن الأسرة المغربية لا تذكي قيم الاعتماد على النفس وبث روح المبادرة فحسب دراسة همت عينة من خريجي الجامعات، تبين أن معظم الطلاب المستجوبين يرغب في الحصول على وظائف حكومية عوض الأعمال الخاصة التي تقتضي الاعتماد على النفس وروح المبادرة.[7]
7- هناك أيضا مشكل العنف والتوتر داخل الأسرة وغياب نقاش حول مستقبل التلميذ واختياراته ، وكذا غياب الشروط الضرورية للتنشئة الاجتماعية الصحيحة، الشئ الذي يخلق حالة من الاضطراب النفسي لدي التلميذ تنعكس على مستوي تحصيله وبالتالي على قراراته واختياراته.
3-على مستوى تأهيل الموارد البشرية:
يسجل في هذا الباب ضعف كبير، فالـمجال يعرف خصاصا كبيرا في الـموارد البشرية الـمؤهلة وضعف التكوين الـمستمر المخصص لها، مع ضعفٍ في العرض فيما يتعلق بالتكوين الأساسي بمركز التوجيه والتخطيط التربوي وعدم مسايرة هذا التكوين للمستجدات التربوية الحاصلة في الـميدان.
4-على مستوى تدخل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين:
نلاحظ أيضا على هذا المستوي شبه غياب للأطراف الاقتصادية والاجتماعية في عملية التوجيه، لاسيما الجماعات المحلية والمنعشين الاقتصاديين ، يلاحظ كذلك غياب أية إشارة للتعاون بين الهيآت المنظمة للمقاولات بالمغرب و المؤسسات التعليمية من حيث الشراكات من أجل التحسيس بالمهن او القطاعات التي تتطلب مناصب شغل مستقبلا. وهو غياب يمكن تفسيره بكون الفاعلين الذين يمكنهم أن يساهموا في تكريس هذه المبادئ، لا يتوفرون على الكفايات والمؤهلات الضرورية لتنشيط وتحريك الوسط التربوي والاجتماعي، فضلا عن غياب أجرأة وتقنين واضحين لطبيعة التدخل المراد من هؤلاء الفاعلين .
لقد بينا، من خلال هذا التشخيص الإجمالي، كيف أن المقاربات والمناهج المعتمدة حاليا في مجال التوجيه التربوي لم تعط أكلها، ولم تحقق الأهداف المعلنة عنها، وهو ما نعتقد أن مرده لازمة منظومة التربية والتكوين بشكل كامل، الشئ الذي أكده احد الباحثين التربويين في كون ضعف حلقة الاستشارة والتوجيه في النظام التربوي المغربي ليس مرده فقط لأزمة وسائل أو هياكل و بنيات ، أو أزمة نصوص وتنظيمات وإجراءات، بل هي إلى جانب كل ذلك أزمة منظومة بكاملها تتغذى من الغموض والضبابية التي تلف أهداف قطاع الاستشارة والتوجيه، والتي تتفاعل مع أزمة نظام التربية والتكوين وأزمة النظام السوسيومهني. وتتفاعل هذه الأزمات في إطار حلقة دائرية توفر مناخ إنتاج وإعادة إنتاج ظروف وسياق الوضع المتأزم[8].
ونرى أيضا إلى جانب كل ذلك أن أزمة التوجيه هي أزمة هوية مرتبطة اساسا بغياب برايدم Paradigme للتوجيه بأبعاده الثلاثة:
- المعرفة النظرية le savoir théorique حيث نسجل في هذا الباب غياب تراكم علمي في هذا المجال.
- المعرفة العمليةle savoir-faire ويكمن التدليل عليها بضعف العطاء على مستوى الممارسة الميدانية وعدة تحكم عدد مهم من المستشارين في الوسائل الكفيلة بإنجاز مهامهم.
- المعرفة السلوكية le savoir-être وهو ما يشير إليه الغياب التام للتراكم على مستوى التقاليد المهنية في مجال التوجيه.
بالمقابل أزمة التوجيه هي من جانب آخر أزمة “الآخر” المتمثل أساسا في الوعي المؤسساتي و الاسري بأهمية التوجيه التربوي.
إن غياب ذلكم الانمودج الارشادي القائم الذات بأبعاده الثلاثة كما رأينا ، الذي يعنى بمجال التوجيه التربوي ،ويعمل في تناغم واتساق مع المشروع المجتمعي للتربية والتكوين الذي يفترض أن يكون واضح المعالم، وموضع إجماع، ومستندا لمرجعيات تنهل من تراثنا العربي والإسلامي ومنفتحا على التجارب الإنسانية الناجحة، لهو أحد تجليات الازمة ، وفي نفس الوقت احد المفاتيح الهامة لإيجاد الحلول الناجعة لإشكالية التوجيه ، وهو ورش يتعين ان يتعبا الجميع حوله.
خلاصة:
لقد بينا فيما تقدم طبيعة ازمة الانطلاقة ، حيث تم عزل قطاع التوجيه كبنية فرعية للنظام التعليمي وتم حصر دور المستشار في تنظيم حملات إعلامية لفائدة تلاميذ اقسام عتبات التوجيه وحضور مجالس التوجيه للمساهمة في تدبير تدفقات التلاميذ على مختلف الشعب التعليمية وفق معطيات الخريطة المدرسية. وعموما فالتوجيه التربوي كمفهوم يعتبر دخيلا على ثقافتنا التربوية إذ يدخل في باب ما يسمى بالاستيراد التربوي.
كما بينا ازمة الوسائل والهياكل والمتدخلين وكذا أزمة الهوية، وسنحاول في الفقرة الموالية تقديم مداخل لحل معضلة التوجيه.
5-التمهين مدخل للارتقاء بجودة التوجيه التربوي ومهام أطر التوجيه.
إن مصطلح التمهين يجرنا للحديث عن المهنة كمجال ذو دلالات اصطلاحية، فبحسب كاترين براديز[i] فالمهنة هي هوية تبنى، ووضع يدافع عنه، ومواقع يتعين تحصينها، وزبناء يتعين طمأنتهم وإرضائهم. تلكم إذا بعض التحديات التي تصدى لها علم إجتماع المهن la sociologie des professions. إن مفهوم التمهين ، يطرح علينا ايضا سؤال الممارسة المهنية بين ما يراد لنا ان نكون عليه ، وما تنتظره منا المؤسسات الرسمية، وبين ما نريد ان نكون عليه بمعنى الوضع والمكانة التي نريدها لمهنتنا. وبين الوجهة الرسمية والإرادة الشخصية ، فيقه نتيجة لذلك ينشا نقاش بين قطبين اي قطب التمهين كنية لدى المؤسسات الرسمية التي تضع معايير الولوج للمهنة وتحدد الادوار والمهام والوسائل وبين قطب النمو المهني للأشخاص بما هو هوية مهنية تتشكل تبعا للتطور النمائي والمهني للأفراد. ومنه ينشا الصراع حول المواقع بين طرفي المعادلة (الدولة والمهنيين) .
معنى “التمهين “
التمهين (Professionalisation) عملية اجتماعية تنال من خلالها وظيفة ما خصوصية وموقعا مهنيا . ومعنى ذلك أنها عملية اجتماعية أي أنها تؤثر فيها التحولات الاجتماعية والتوجهات نحو الأعمال، فقد يرقى عمل ليصبح مهنة، وقد يحدث العكس نتيجة للمستجدات والتحولات الاجتماعية. فعملية التمهين عملية اجتماعية متحركة (الجواد 18، Cheers, 2001). وتتأثر عملية التمهين بالثقافة وبالوقت. (Kelly. 1995 p. 3) .
وهذا ما قد يقود أحيانا للغموض في تحديد معنى (المهنة) وتعدد معانيها Kelly. 1995 p. 2
يعرف ساباتيني وزملاؤه (Sabatini, et al. 2002) عملية التمهين بأنها حركة في أي مجال نحو إيجاد نوع من المعايير للإعداد والكفاءة. ويعرفها شانهان وزملاؤه (Shanahan, et al. 1994) بأنها استخدام التربية والإعداد ومنح الشهادات لتطوير جودة أداء العاملين في وظيفة معينة. (عن Sabatini). كما يرى بعض الباحثين أن المهنية هي التقيد بميثاق أخلاقي داخلي .Kelly. 1995 p. 4.. فعملية التمهين هي انتقال عمل ما من مجرد عمل حرفي بسيط، إلى مهنة منظمة تخضع لضوابط وأسس المهنة.
معايير المهنة
يرى نور الدين محمد عبد الجواد في كتابه نظرية التربية المستمرة ، أن السمات الرئيسة لاكتساب صفة المهنية هي الآتي:
- للمهنة أهداف مجتمعية (تحديد الوظائف التي تقوم بها المهنة)
- استناد المهنة إلى قاعدة علمية
- إعداد الممارسين داخل الجامعات
- النمو المهني )المستمر(
- ممارسة أخلاقية خاصة بالمهنة )ميثاق أخلاقي للعمل(
- وجود رابطة )مؤسسة( مهنية .
واقعنا والتمهين
من خلال دراسة معايير تمهين أطر التوجيه والتخطيط التربوي وخصائص المهنة، يمكن القول بأن تمهين مجال التوجيه ببلادنا لا زال في خطواته الأولى.
يتصف واقعنا فيما يتعلق بإعداد وتكوين اطر التوجيه والتخطيط التربوي بالصفات التالية:
ليس هناك معايير متفق عليها ملزمة لمركز التوجيه والتخطيط التربوي بخصوص برامج التكوين والتدريب، بل نجد أن هذه المؤسسة تجتهد لتضع برنامجها الخاص بها. حيث تفتح المباراة لولوج هذا المركز لأساتذة التعليم الثانوي الاعدادي في سلك المستشارين. وللمستشارين في سلك التفتيش .وهنا يحق لنا ان نتساءل لماذا هذه الفئة بالتحديد؟ ولماذا لا يتم مثلا قبول فئات أخري مثل اساتذة التعليم الابتدائي او الثانوي او المجازين في تخصصات قريبة لمجال اشتغال المستشارين؟
ثم كيف يتم إعداد اختبارات الولوج للمركز ؟ وماذا عن مستوى جودة هذه الاختبارات إن على مستوى البناء أو على مستوى التطبيق. وعلى أي اساس يتم تحديد عدد الناجحين في مباراة ولوج المركز بسلكيه؟ هل ينطلق ذلك من حاجيات المنظومة التربوية، ام من حسابات المناصب المالية المتوفرة؟
معايير تمهين مجال التوجيه التربوي:
إن الحديث عن تمهين مجال التوجيه التربوي، أو الانتقال بهذا العمل الى طور المهنة ، يقتضي بالضرورة توفر مجموعة من المعايير كما يراها بعض الباحثين :
- معايير الاختيار للالتحاق بمؤسسات إعداد المستشار او المفتش.
- معايير الإعداد لمهنة إطار في التوجيه او التخطيط التربوي
- معايير مزاولة المهنة(وضوح الاهداف والمهام والأدوار والعلاقات.وجود دليل مرجعي للكفايات، وجود قانون لممارسة المهنة…)
- معايير النمو المهني.
- معايير التدريب و التكوين والتكوين المستمر.
- معايير الاستقلالية
- معايير الانتظام في هيئات مهنية منظمة قانونا، يكون بيدها حق منح الترخيص بمزاولة مهنة مستشار او مفتش في التوجيه والتخطيط التربوي، وتنمية قيم وأخلاقيا ت خاصة بالمجال، وتوثيق العلاقة مع المهن الاخرى وكذا تحديد الضوابط السلوكية لمزاولة المهنة.
- معايير تتعلق بضبط جودة الأداء سواء على مستوى العمليات أو النتائج، مما يؤسس لإيجاد محاسبية في التوجيه.
خاتمة
إن التحديات التي تواجه إطار التوجيه تبقى من الحجم الكبير، ولا تعدو هذه الارضية ان تكون دعوة لفتح نقاش عميق بشأنها عسى ذلك يصب في مصلحة منظومتنا التي نجزم أنها لن تكون متوازنة الا إذا استدمجت كل عناصرها.
أنظر بحث الأستاذ عبد العزيز سنهجي، “انفتاح المؤسسة التعليمية على محيطها العام-خدمات الإعلام والتوجيه نموذجا”، مكتبة النيل،2006[1]
[2]اطر التوجيه والتخطيط التربوي هم المستشارين والمفتشون المتخرجون من مركز التوجيه والتخطيط التربوي بعد قضاء سنتين من التكوين بالنسبة لأساتذة السلك الأول المستشارين في التوجيه أو التخطيط التربوي، وقضاء سنتين من التكوين للمستشارين ليصيحوا مفتشين في التوجيه أو التخطيط التربوي.
[3] هماك من الباحثين أمثال تايلور من يري بان تعريف التوجيه يكاد يكون تعريفا للتربية ذاتها .
[4] راجع كتاب نور برت إلياس 1991 في الموضوع.
[5] راجع كتاب التوجيه التربوي والمهني بين النظريات والتطبيق ل جون كيشارد وميشال هوتو- ترجمة خالد امجيدي –عالم الكتب الحديث 2009
يتكون القطاع المدرسي حاليا من مؤسستين تعليميتين إلى أربعة. [6]
[7] احمد اوزي، أي شباب لأي مجتمع في مستهل الألفية الثالثة، مجلة علوم التربية، العدد 21.ص: 15